يزداد الخوف الأوروبي من توقف إمدادات الغاز الروسي مع اقتراب موسم الشتاء وهو ما سيؤثر بشكل كبير ليس فقط على الصناعة والتنمية ولكن على حياة المواطنين بالمنازل الذين يترقبون موجة برد قارسة هذا العام، فهل يعود سكان اوروبا لاستخدام الحطب في الطهي مثل ثلث سكان العالم وهو عودة للعصور الوسطى في ذات الوقت الذي كانت تسود فيها هذه الطريقة في التدفئة أيضاً بالاعتماد على الفحم كبديل للغاز الطبيعي حالياً.
بلومبرج: وقف تدفقات الغاز الروسي يكلف أوروبا 50 مليار يورو إضافية خلال فصل الشتاء
وبحسب البيانات الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة فإنه لايزال ثلث سكان العالم (نحو 2.5 مليار شخص) يعتمدون على الحطب والفحم لطهى وجباتهم، وهو رقم رغم كونه صادم إلا أنه مرشح للزيادة فى ظل أزمة الطاقة الحالية، وهو ما يعكس مدى تقصير العالم فى ضمان الوصول العادل إلى الطاقة، حيث يفتقر 770 مليون شخص حول العالم إلى الكهرباء، مما يعرقل الجهود المبذولة لتحقيق القضاء على الفقر والأهداف الإنمائية الأخرى.
ولم تكن الحرب الروسية الأوكرانية سوى ضوء على حقيقة مفادها أن الافتقار إلى التنوع فى أنظمة الطاقة والغذاء العالمية، يحمل فى طياته فاتورة باهظة للغاية وهى انعدام الأمن الغذائى.
و قالت روسيا في 5 سبتمبر الجاري، إنها ستغلق خط أنابيب نورد ستريم طالما كانت العقوبات الغربية سارية ، مما أدى إلى ارتفاع المؤشر القياسى لأسعار الغاز بنسبة %30 إضافية، وهو سعر يعادل 400 دولار لبرميل النفط، وفقا للإيكونوميست.
الأسعار المجنونة، بوسعها رفع الإنفاق السنوى على الكهرباء والغاز من قبل المستهلكين والشركات فى جميع أنحاء الاتحاد الأوروبى إلى 1.4 تريليون يورو، من 200 مليار يورو فقط فى السنوات الأخيرة، حسب تقديرات بنك مورجان ستانلى.
والآن، مع الارتفاع الشديد فى أسعار الطاقة والأسمدة والسلع الغذائية، أصبح الناس فى جميع أنحاء العالم غير قادرين على استيعاب التكاليف المتزايدة، وقد أجبر الفشل الجماعى الذى تمر به الدول فى تعزيز أنظمة الطاقة المتنوعة، الملايين حول العالم على الاعتماد على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية للبقاء على قيد الحياة.
وكانت موسكو قد قطعت إمدادات الغاز بالكامل عن أوروبا فى الأول من سبتمبر الجاري، وهو ما حدا بدول القارة العجوز إلى اتخاذ جولة أخرى من إجراءات الضغط على موازناتها، حيث أعلنت الحكومات عن منح إضافية لمساعدة مواطنيها على دفع فواتيرهم
وقبل الغزو، كانت أوروبا تعتمد على واردات الغاز الروسى بنسبة %40، والآن لا تتجاوز تلك النسبة %9، بحسب أورسولا فون دير لين رئيس المفوضية الأوروبية هذا الأسبوع.
وقد ساعدت واردات الغاز الطبيعى المسال المتدفقة على أوروبا من النرويج، والولايات المتحدة وقطر فى سد الفجوة، لكن ثمة جدل مُثار حول استمرارية تلك التدفقات فى المستقبل.
واضطرت الحكومات الأوروبية، إلى التعامل مع التداعيات المالية لأزمة الطاقة عبر تخصيص مليارات اليوروهات لتمويل الشركات المتضررة، والضغط على شركات الطاقة لخفض الأسعار، وتصميم برامج الدعم المؤقتة للمواطنين.
ويتركز الجدل فى بروكسل الآن حول خطر حصول اضطرابات اجتماعية، فى ظل آراء تقول إن أزمة الطاقة فى أوروبا قد تستمر لسنوات، وفى اجتماعهم الأخير فى بروكسل، سعى وزراء الطاقة الأوروبيون، دون جدوى، للاتفاق على إجراءات لدعم المواطنين والشركات دون تدمير سوق الطاقة بالكامل.
وبلغ الخلاف ذروته بين الوزراء الأوروبيين نتيجة الشعور المتزايد بالقلق بشأن التداعيات الاقتصادية والسياسية التى قد تنجم عن أزمة الطاقة.
أعباء جديدة يتحملها اقتصاد منطقة اليورو
وفقًا لـ«بلومبرج»، فإن قرار روسيا بوقف تدفقات الغاز تمامًا عبر خط أنابيب “نورد ستريم 1” سيرفع فاتورة الغاز فى منطقة العملة الأوروبية الموحدة “اليورو” بمقدار 50 مليار يورو إضافية، ويضاف هذا الرقم إلى الفاتورة البالغ قيمتها 460 مليار يورو من الزيادات السابقة فى الأسعار.
وسيؤدى هذا بالطبع إلى تقليص الناتج المحلى الإجمالى فى المنطقة بحوالى %2.2 سنويًا، وسترتفع تلك النسبة إلى %4 إذا كان الشتاء باردًا بشكل غير عادى وزادت التصدعات التى تهدد الوحدة الأوروبية.
أزمة الطاقة قد تدفع أوروبا للتنصل من التزاماتها المناخية
لكن الخطر الأكبر الذي قد يؤثر على العالم باسره هو أن تتنصل القارة الاوروبية العجوز تحت ضغوط أزمة الطاقة من التزماتها المناخية ، حيث توضح المؤشرات اتجاه اوروبا للاستثمار من جديد في الوقود الاحفوري في القارة الافريقية في محاولة للاستغناء عن البترول والغاز الروسي وهو ما يأتي على حساب استثمارات الطاقة الجديدة والمتجددة.
حيث تسعى القارة العجوز لغيجاد حل سريع لأزمتها الطارئة التي وضعتها فيها الحرب الروسية الاوكرانية حيث باتت روسيا تهدد كافة الدول من فرض عقوبات اقتصادية على السلع الروسية وتستخدم سلاح الغاز ضد أوروبا.
100 مليار دولار للبحث عن الغاز فى أفريقيا
ستستفيد أفريقيا بشكل مباشر من أزمة الطاقة العالمية، عبر اجتذاب استثمارات أجنبية ضخمة فى وقت قصير لاستغلال ثرواتها النفطية والغازية الكامنة، ولكنها مع ذلك ستواجه تراجعا فى قطاع الطاقة المتجددة الواعد.
ووفقا لحسابات رويترز، فإن منتجى النفط والغاز من الشركات الحكومية والخاصة يدرسون مشروعات جديدة تزيد قيمتها على 100 مليار دولار فى القارة السمراء، ومنذ الغزو الروسى لأوكرانيا، وقعت مجموعة الطاقة الإيطالية إينى صفقات جديدة مع الجزائر ومصر والكونغو، بهدف تصدير المزيد من الغاز إلى أوروبا.
وتدرس شركة «توتال إينرجيز» الفرنسية إعادة تشغيل مشروع متوقف للغاز الطبيعى المسال بقيمة 20 مليار دولار فى موزمبيق.
وانضمت Equinor النرويجية إلى شركة شل لتوقيع اتفاقية مع تنزانيا لبناء محطة لتصدير الغاز الطبيعى المسال (LNG) هناك.
وفى مايو، وقع المستشار الألمانى أولاف شولتز صفقة مع رئيس السنغال ماكى سال للتنقيب عن الغاز الذى سيتم تسييله وإرساله عن طريق السفن إلى أوروبا.
يأتى ذلك بينما تمهد الحكومات الأوروبية الطريق لاستثمارات ضخمة فى الوقود الحفرى من مصادر غير روسية، مع وضع سياسات تناسب شركات الوقود الحفرى، التى ترى الحرب الروسية فى أوكرانيا فرصة لتوسيع الإنتاج فى أماكن أخرى.
وتضمنت إجراءات الاستجابة «الطارئة» التى اتخذتها الحكومات الأوروبية، والتى تهدف إلى الحصول على إمدادات غير روسية، الموافقة على مشاريع إنتاج الوقود الأحفورى التى لم يتم تشغيلها لسنوات.
وتقدر وكالة الطاقة الدولية، أن أفريقيا يمكنها أن تغطى خمس واردات أوروبا من الغاز الروسي.
وقالت الوكالة إن الاستثمار فى مشروعات الطاقة بأفريقيا لم ينتعش بعد منذ تراجع أسعار الطاقة فى عام 2014.
ووفقا للتقرير، فإن البلدان الأفريقية لن تستفيد فقط من الظروف الحالية، بل ستزدهر على المدى الطويل مع الأخذ فى الاعتبار أن إمكانات التوسع فى الطاقة الأفريقية كبيرة.
دول أوروبية تمدد العمل للمفاعلات النووية المنتجة للكهرباء
انخفضت الاستثمارات فى الطاقة النووية بعد كارثة فوكوشيما اليابانية التى وقعت فى العام 2011، وهى أسوأ حادث نووى فى العالم منذ حادثة تشيرنوبيل فى العام 1986، مع تزايد المخاوف بشأن سلامتها وخوف الحكومات، لكن فى أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا فى الـ24 من فبراير الماضى ، والضغط اللاحق على إمدادات الطاقة، ومساعى أوروبا للتخلص من النفط والغاز الروسيين، بدأت الدفة تميل الآن لصالح الطاقة النووية.
وقد دفعت أزمة الطاقة العديد من الدول لإعادة النظر في مستقبل المفاعلات النووية المنتجة للطاقة الكهربائية في أوروبا، والتى كان قد قرر البعض إغلاقها نهائياً من نهاية العام الجاري 2022، ومن الدول التى أعادت النظر فى الطاقة النووية اليابان، حيث أدى حادث 2011 إلى تعليق العديد من المفاعلات النووية بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة .
ودعا رئيس الوزراء اليابانى فوميو كيشيدا مؤخرا إلى دفع إحياء صناعة الطاقة النووية فى البلاد ، وبناء محطات نووية جديدة. وتجاهلت الدول الأخرى التى كانت تتطلع إلى الابتعاد عن الطاقة النووية تلك الخطط – على الأقل على المدى القصير.
وبعد أقل من شهر من هجوم روسيا على أوكرانيا، أرجأت بلجيكا، خطتها للتخلص من الطاقة النووية فى العام 2025 إلى 10 سنوات جديدة.
وفى حين أن الطاقة النووية، المستخدمة حاليًا فى 32 دولة، توفر 10 % من إنتاج الكهرباء فى العالم، رفعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية توقعاتها فى سبتمبر للمرة الأولى منذ كارثة 2011.
وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة الذرية الآن أن تتضاعف القدرة بحلول العام 2050 فى ظل السيناريو الأكثر ملاءمة، و حتى فى ألمانيا، أكبر اقتصاد فى أوروبا، لم يعد التمسك بالطاقة النووية موضوعًا محظورًا لأن أزمة الطاقة تجدد الجدل حول إغلاق آخر ثلاث محطات للطاقة النووية فى البلاد بحلول نهاية العام 2022.
وقالت برلين الشهر الماضى إنها ستنتظر نتيجة “اختبار الإجهاد” للشبكة الكهربائية الوطنية قبل أن تقرر ما إذا كانت ستلتزم بالإلغاء التدريجي من عدمه.
وقال جيرالد نيوباور خبير المناخ والطاقة فى منظمة السلام الأخضر الألمانية، إن التحول إلى الطاقة النووية “ليس حلاً لأزمة الطاقة”، موضحاً أن الطاقة النووية سيكون لها فعالية “محدودة” فى استبدال الغاز الروسى لأنه “يستخدم بشكل رئيسى للتدفئة” فى ألمانيا وليس لإنتاج الكهرباء.
وأضاف: “المفاعلات ستوفر فقط الغاز المستخدم فى الكهرباء وستوفر أقل من 1% من استهلاك الغاز”.
ولكن وفقًا لنيكولاس بيرجمانز ، خبير الطاقة والمناخ فى مركز أبحاث IDDRI ، فإن توسيع استخدام الطاقة النووية “يمكن أن يساعد أوروبا فى الوصول إلى وضع طاقة مختلف تمامًا ، مع العديد من الأزمات المتداخلة: مشكلة إمدادات الغاز الروسى ، والجفاف الذى قلل من قدرة السدود، والإنتاج الضعيف للمحطات النووية الفرنسية “.
وقال مؤيدو استخدام الطاقة النووية إنها أحد أفضل الخيارات فى العالم لتجنب تغير المناخ لأنه لا ينبعث منها غاز ثانى أكسيد الكربون بشكل مباشر.
وتستحوذ الطاقة النووية على حصة أكبر من مزيج الطاقة العالمى فى معظم السيناريوهات التى طرحها خبراء المناخ التابعون للأمم المتحدة ، IPCC ، للتخفيف من أزمة المناخ العالمية.
ومع تزايد الحاجة للكهرباء، أعربت العديد من الدول عن رغبتها فى تطوير البنية التحتية النووية بما فى ذلك الصين – التى لديها بالفعل أكبر عدد من المفاعلات – وكذلك جمهورية التشيك والهند وبولندا منذ أن باتت الطاقة النووية تمثل بديلاً للفحم.
وبالمثل ، فإن لدى بريطانيا وفرنسا وهولندا طموحات مماثلة، وحتى الولايات المتحدة حيث تشجع خطة الرئيس جو بايدن الاستثمارية تطوير القطاع.
ويدرك خبراء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أن نشر الطاقة النووية “يمكن أن تقيده التفضيلات المجتمعية” لأن الموضوع لا يزال مثار جدل بسبب مخاطر وقوع حوادث كارثية كما أن كيفية التخلص من النفايات المشعة بأمان هى قضية لم تُحل بعد.
وتعارض بعض الدول، مثل نيوزيلندا، استخدام الطاقة النووية، كما كانت القضية محل نقاش ساخن فى الاتحاد الأوروبى حول ما إذا كان ينبغى تصنيف الطاقة النووية على أنها “طاقة خضراء”.
إلا أنه في النهاية تبقى الازمة قائمة حيث سيستمر الارتفاع المتزايد في أسعار الغاز وهو ما سيكون مصدر للدخل لعدد من الدول المنتجة للطاقة والتى ستشهد بعض التوازن والرخاء، في حين سيمثل أزمة لاقتصادات أخرى مستهلكة للطاقة ستكون عبأ كبير على ميزانيات مواطنيها وهو ما يمكن أن يغير شكل النظام العالمي خلال السنوات المقبلة وهو ما تراهن عليه روسيا من تغييرها لموقف أوروبا من العقوبات الاقتصادية المفروضة على الدب الروسي.