في زمن الحرب الروسية الأوكرانية ، يصبح اللا معقول سيد الموقف، ويبدو أن البترول في طريقه إلى أن يصبح سلعة "مجنونة" سريعة التقلبات مثل المعدن الأصفر "الذهب".
فبعد تخطيه حاجز المائة دولار للبرميل إثر اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ، ثم ارتفاعه المبرر فوق حاجز الـ130 دولارا للبرميل بعد ذلك، وبعد تحذيرات "سوداوية" باحتمال وصوله إلى 200 و300 دولار للبرميل في حالة استمرار الحرب، فوجيء المحللون والخبراء والمتداولون بهبوط أسعار البترول إلى ما تحت حاجز المائة دولار من جديد، رغم استمرار الحرب، وامتدادها، وغياب أي أفق لحل سياسي لها.
فقد سجل البترول ثاني انخفاض أسبوعي على التوالي، حيث تراجع خام القياس العالمي "برنت" بمقدار 1,5%، كما تراجع خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي بمقدار 1%، لتسجل أسعار النفط 102,78 دولار للبرميل للعقود الآجلة لخام القياس العالمي عند التسوية يوم الجمعة، في حين سجلت العقود الآجلة لخام غرب تكساس 98,26 دولار للبرميل.
ويأتي هذا التراجع لعدة عوامل، أولها تجدد المخاوف من تأثير جائحة كوفيد 19 على خفض الطلب في الصين، وثانيها الكشف عن خطط لدى بعض الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية للإفراج عن كميات قياسية من الخام من الاحتياطيات الاستراتيجية، وثالثها، بدء إعلان أمريكا وحلفائها عن جاهزيتها للتحول نحو استخدام موارد بديلة للطاقة الجديدة والمتجددة، لتقليل الاعتماد على البترول والغاز الروسي، ومحاولة محاصرة واردات روسيا من البترول والغاز عالميا.
وفي محاولة منها لتعويض نقص الخام الروسي، بعد فرض عقوبات على موسكو، اتفقت الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية، ومن بينها الولايات المتحدة، على الإفراج عن 240 مليون برميل من احتياطيات النفط الاستراتيجية على مدار الأشهر الستة القادمة.
وتعادل أحجام السحب من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي الأمريكي وحده 1,3 مليون برميل يوميا على مدار الأشهر الستة، وهو ما وصفه محللون بأنه يكفي لتعويض نقص قدره مليون برميل يوميا في المعروض من النفط الروسي.
وفي الوقت نفسه، نفى الأمريكيون ما تردد عن أن العقوبات التي فرضوها على البترول الروسي قد تم فرضها أيضا على دول أخرى، حيث اعتبروا أن قرار استيراد نفط روسي من عدمه هو قرار تتخذه كل دولة على حدة.
إلا أن هذا النفي كان أضعف بكثير مما سبق وأن أعلنه مسئول أمريكي كبير من أن واشنطن حذرت الهند من شراء نفط روسي، ردا على إصرار الهند على الدفاع عن موقفها بأحقيتها في تلبية احتياجاتها من الطاقة.
وعلى الصعيد الأوروبي، وعلى الرغم من استبعاد ألمانيا احتمال فرض عقوبات على موارد الطاقة الروسية في الوقت الحالي، فإن شارل ميشيل رئيس المجلس الأوروبي أكد أنه يتعين على الاتحاد الأوروبي "عاجلا أم آجلا" فرض عقوبات على قطاع النفط والغاز الروسيين، علما بأن المفوضية الأوروبية كانت قد اقترحت على الدول الأعضاء الـ27 بالاتحاد وقف مشترياتها من الفحم الروسي التي تشكل 45% من واردات الاتحاد الأوروبي، علما بأن النفط الروسي يشكل 25% من المشتريات الأوروبية، بينما يشكل الغاز الروسي 45% من المشتريات الأوروبية، ومع ذلك، يبدو أن تسريع وتيرة الاعتماد على موارد الطاقة الجديدة والمتجددة كان لها أثر بالغ في هبوط أسعار البترول.
ومما زاد الطين بلة أن الانخفاض في الأسعار جاء على الرغم من تحذيرات مسئولي منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" بشأن نقص المعروض.
حيث قال محمد باركيندو أمين عام المنظمة لمسئولي ملف الطاقة في الاتحاد الأوروبي إن الأزمة الراهنة في أسواق النفط العالمية "خارجة عن سيطرة المنظمة"، مشيرة إلى أن سوق النفط العالمية قد تفقد أكثر من 7 ملايين برميل نفط يوميا من الإمدادات الروسية نتيجة العقوبات الحالية أو المستقبلية المفروضة على روسيا بسبب غزو أوكرانيا، أو بسبب مقاطعة بعض العملاء للنفط الروسي.
.. ومع ذلك، تراجعت الأسعار!
وكان باركيندو محقا ودقيقا عندما عبر عن هذا التناقض بقوله إن هذه الأزمة "تفاقمت لدرجة أنها بدأت تخلق تذبذبا كبيرا"، مشيرا إلى أنه "توجد عوامل غير أساسية خارجة تماما عن سيطرتنا في أوبك".
وهذا التصريح يشير إلى أن الفترة المقبلة لن تكون محكومة بأي قواعد وضوابط ومبررات منطقية فيما يتعلق بسعر البترول، وسيكون "اللامعقول" هو سيد الموقف، وهو ما يعني مزيدا من التقلبات السعرية، كنتيجة طبيعية لحالة التقلبات غير الطبيعية في الأسواق، بغض النظر عما يجري في الصين أو بين روسيا وأوكرانيا.