"نحن الآن في تقطة تحول تاريخية، فأسعار كل مصادر الطاقة ترتفع". بهذه الكلمات، لخص فرانسيسكو بلانش الخبير الاقتصادي الأمريكي عبر شبكة "سي.إن.بي.سي" أزمة الارتفاع الكبير في أسعار البترول والغاز الطبيعي والسلع الأساسية عالميا، وبخاصة في أوروبا، وآسيا، اللذان يمكن وصفهما بـ"أكبر المتضررين" من ارتفاع إمدادات الطاقة على وجه التحديد، باعتبار دول هاتين القارتين أكثر المستوردين، وأكبر المستهلكين.
وبعبارات مشابهة أيضا، لخص الدكتور محمد معيط وزير المالية في تصريحات صحفية أسباب الارتفاع الملحوظ في أسعار الوقود والسلع الأساسية الذي شعر به المصريون في توقيت متزامن مع أعباء المصرفات الدراسية التقليدية لأبنائهم، والحديث المتكرر عن خفض الدعم، مع استمرار تداعيات جائحة كورونا.
معيط قال في تصريحات صحفية إن "العالم كله يشهد زيادة في أسعار البترول والغاز الطبيعي، فضلا عن ارتفاع أسعار المواد الأولية كالقمح والزيت"، وتحدث أيضا عن "حالة من الاضطراب الشديد في العالم بسبب أسعار الطاقة، وعدم توازن بين العرض والطلب، وزيادة في أسعار الشحن، وهو ما أثر على الأسعار في مصر، خاصة وأن مصر من أكبر مستوردي القمح في العالم، وتستورد كذلك غاز البوتاجاز وزيت الطعام".
التصريحات تبدو منطقية لتبرير الارتفاع الأخير في أسعار الوقود بمعدل طفيف بلغ 25 قرشا للتر البنزين، و25 قرشا للتر المكعب من الغاز الطبيعي للسيارات، ليصل سعره إلى 375 قرشا بدلا من 350 قرشا.
تصريحات الوزير، وزيادة سعر غاز تموين السيارات، أثار عدة تساؤلات، أهمها:
ما هو حجم تأثر مصر من ارتفاع أسعار الوقود عالميا؟ وهل سيتوقف ارتفاع أسعار السلع الأساسية عند هذا الحد؟ وأين الغاز المصري؟ ولماذا ترتفع أسعاره بدلا من أن تنخفض؟ ولماذا يتم تسعير الغاز داخل مصر بأكثر من سعره التصديري؟
بداية، نشير إلى أن الأرقام الرسمية توضح لنا أن إنتاج مصر من الغاز الطبيعي شهد ارتفاعا في الفترة الأخيرة، حيث بلغ إجمالى متوسط الإنتاج أكثر من 6,8 مليار قدم مكعب، وتمت تغطية احتياجات السوق المحلية منها، فى حين يبلغ متوسط الاستهلاك المحلى يوميًا من الغاز الطبيعى أكثر من 6 مليارات قدم مكعب، حيث يأتي قطاع الكهرباء في مقدمة القطاعات المستهلكة للغاز بأكثر من 60%، ثم قطاع الصناعة بأكثر من 22%، تليه صناعة البتروكيماويات ومشتقات الغاز بنحو 11%، بينما يبلغ استهلاك المنازل والسيارات 6% فقط، وجاري التوسع في البند الأخير، حيث تم توصيل الغاز الطبيعي إلى 1,2 مليون وحدة سكنية العام المالي الماضي، ليصل عدد الوحدات السكنية المستفيدة من الغاز الطبيعي إلى 12,3 مليون وحدة على مستوى الجمهورية، وسط توقعات بمضاعفة هذا العدد بعد إضافة سبعة ملايين وحدة سكنية خلال السنوات الثلاث المقبلة.
وتعد أسعار استهلاك الغاز الطبيعي في مصر حاليا من بين الأرخص على مستوى دول العالم، كما أن عمليات التنقيب لا تزال جارية ومستمرة، والتعاقدات مع الشركات الأجنبية الراغبة في التنقيب عن مزيد من الثروات، لا تتوقف، ولكن المشكلة أن جانبا كبيرا من إنتاج مصر من الغاز مملوك للشركات المنقبة عن الغاز، وحصة مصر من الإنتاج تكاد تفوق الثلثين بقليل – حوالي 4,5 مليارات قدم مكعب يوميا - وهو وضع طبيعي، في ظل وجود حقول واعدة للغاز لم تبدأ العمل أو الإنتاج أو التصدير بعد، فضلا عن نقطة أخرى مهمة وهي أن مصر لا تحصل على احتياجاتها من الشركات المنقبة وفق سعر محدد سلفا في العقود المشتركة بين الطرفين، وبالعملة الصعبة، وهو ما يفسر سبب ارتفاع سعر الغاز المحلي عن سعره عند التصدير.
ولكن، بالنسبة لمنتجات البترول، فتجد مصر نفسها معها مضطرة إلى التماشي مع تقلبات السوق العالمية، عبر تحريك الأسعار بين فترة وأخرى، وفقا للأسعار في حينها، وإن كان هناك هامش من الحركة لدى الحكومة لإرجاء أو تخفيض بعض الزيادات لأسباب اجتماعية.
ومع ذلك، فتوجه أوروبا وآسيا إلى الطاقة النظيفة، والأرخص سعرا، ورغبة هذه الدول في الهروب تدريجيا من الارتفاع المستمر في أسعار البترول، وأيضا من التقلبات الجيوسياسية المحيطة باستيراد الغاز الروسي، كل هذه عوامل تبشر بأن مصر لديها مستقبل واعد بالفعل فيما يتعلق بكونها "مركزا" إقليميا ودوليا للغاز الطبيعي، نظرا لارتفاع احتياطياتها، ولقربها الجغرافي من القارتين العجوزتين، فضلا عن تراجع المخاطر الجيوسياسية لديها، ولعل هذا هو ما اتضح في الاهتمام الغربي بالانضمام إلى منتدى غاز شرق المتوسط، وأيضا من خلال التعاون مع لبنان من أجل تصدير الغاز الطبيعي إلى هذا البلد الذي يواجه أزمة طاحنة في الطاقة.
وكل هذه مؤشرات إيجابية، ولكن لا يجب انتظار نتائج سريعة أو فورية منها، فالغاز الطبيعي المصري سيفرض نفسه تدريجيا على السوق العالمية مع استمرار الارتفاع الكبير في أسعار البترول، ونقص إمداداته.
"أسعار البترول في الولايات المتحدة ارتفعت بمعدل سبعة أضعاف، والرئيس بايدن ليس لديه ما يفعله"!
بهذه الكلمات الموجزة، لخص مات إيجان المحلل الاقتصادي بشبكة "سي.إن.إن" الإخبارية الأمريكية أزمة ارتفاع أسعار البترول عالميا وأمريكيا.
إيجان يقول إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أعلنت عن أن كل الخيارات والاحتمالات موضع الدراسة، لمواجهة الارتفاع الكبير في أسعار البترول، غير أن خبراء الصناعة يقولون إن ما في جعبة إدارة بايدن من إجراءات واحتياطات محدودة جدا، بل إنهم يحذرون من أن بعضا من هذه الإجراءات قد تزيد الأمر سوءا، في ظل استمرار التداعيات السلبية لأزمة كورونا على الاقتصاد العالمي بكامله، وعدم وجود بارقة أمل في تخفيف حدة الوفيات والإصابات بفيروس "كوفيد 19" بشكل حاسم في وقت قريب، من شأنه تصحيح مسار حركة الإنتاج والتصدير والنقل في قطاع الطاقة.
أحد هذه الخيارات، كما تقول "سي.إن.إن"، أن يجلس بايدن مع أقرانه زعماء دول "أوبك" و"أوبك بلاس" لبحث زيادة الإنتاج، ولكن هذا الخيار صعب للغاية، بدليل أن دول أوبك وأوبك بلاس لم يستجيبوا حتى الآن لأي اقتراح بعقد اجتماع لبحث الموقف.
جينيفير جرانهولم وزيرة الطاقة الأمريكي بدأت تتحدث عن الخطة "ب" والخطة "ج" أيضا بالفعل، فقالت إن الخطة "ب" تشمل الاستعانة بالاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي، وهي تصريحات خفضت بالفعل أسعار الخام الأمريكي إلى 74 دولارا للبرميل لمدة يوم واحد، ولكن تحليلات الخبراء عن صعوبة تحقيق ذلك في الوقت الحالي أدت لرفع السعر مجددا إلى 79 دولارا، وليس هذا فحسب، بل إن التوقعات الآن تشير إلى أن سعر البترول سيصل إلى تسعين دولارا للبرميل بحلول نهاية العام الحالي، لو استمر الوضع على ما هو عليه، بدون حلول واضحة وحاسمة.
والآن، يستقر خام برنت عند 82,39 دولار للبرميل، بعد أن كان قد سجل أوائل هذا الأسبوع 83,47.
أما الخطة "ج" فتتضح فيما صرحت به الوزيرة الأمريكي من أن بلادها قد تضطر في نقطة ما إلى وقف تصدير البترول للخارج، لتلبية احتياجات السوق المحلية وتهدئة الأسعار.
ولكن أيضا خبراء الصناعة يحذرون من أن هذه الخطوة ستهدد بنقص المعروض في السوق العالمية من البترول، مما سيؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار العالمية يؤثر عاجلا أو آجلا على أسعار الخام الأمريكي نفسه.
إذن، المكسب الرئيسي لمصر، هو ارتفاع معدل اعتمادها على الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة.
والمكسب الثاني هو أن المستقبل يبدو أفضل بالنسبة للغاز الطبيعي نفسه، لوجود اتجاه أوروبي آسيوي بزيادة الاعتماد عليه.
أما المكسب الثالث، فهو أن مصر ما زال في جعبتها الكثير من احتياطيات وثروات الغاز التي لم تكتشف بعد، ولم تبدأ التصدير بعد.
وتبقى النقطة السلبية الوحيدة في استمرار الارتفاع في فاتورة استيراد المنتجات البترولية، وإن كانت النقطة الإيجابية أنها ستدفع إلى مزيد من الاعتماد الإقليمي والعالمي على الغاز.
وبين حسابات المكسب والخسارة، ما على المستهلك سوى أن يترقب وينتظر، لعل الغد يأتي بالأفضل.