الأحد 22 ديسمبر

زراعة وصناعة

"الزراعة" .. هل أنقذت مصر من ارتفاع الأسعار العالمية؟


زراعة

كان من الممكن أن تصيب أزمة الأسعار العالمية المستهلك المصري بخسائر أكبر وأكثر فداحة وإيلاما.

ولكن، لولا السياسة الناجحة، والمبكرة، التي اتبعتها القيادة السياسية المصرية منذ عام 2014، وحتى يومنا هذا، لتوسيع رقعة الأراضي الزراعية، والضرب بيد من حديد على مخالفات البناء على الأراضي الزراعية، بالتوازي مع جهود توفير السلع الأساسية في الأسواق للمواطنين محدودي الدخل بأسعار مخفضة أو رمزية، لكان المواطن المصري يئن الآن من زيادات وارتفاعات أسعار بنسب تتعدى الضعف.

وبات من قبيل التكرار ترديد عبارة "من يملك قراره هو من يملك قوت نفسه"، أو ترديد عبارات عن أمجاد مصر الزراعية منذ قديم الأزل، دون أن يرتبط هذا المجد القديم بأي أرقام أو حقائق على أرض الواقع.

في عام 2005، أشارت الإحصائيات العالمية إلى أن مساحة الأراضي الزراعية في العالم تبلغ نحو خمسة مليارات هيكتار، أي ما يعادل 38% من المساحة الإجمالية من اليابسة على سطح كوكب الأرض.

وفي عام 2018، أجرت الوكالة الوطنية الأمريكية للفضاء "ناسا" دراسة أظهرت أن الأراضي الزروعة في العالم 1,8 مليار هيكتار فقط.

وسواء كانت الإحصائيتان تشيران إلى أرقام متضاربة، فإنه من الواضح، ووفقا لتحذيرات العلماء، بأن مساحة الأراضي الزراعية في العالم إجمالا في تراجع مستمر.

صحيح أنه طرأ تقدم كبير على جزئية الإنتاجية التي تزيد من كميات المحاصيل المنزرعة في مساحة واحدة وثابتة من الأرض، ولكن من الواضح أن ظاهرة التغير المناخي، وارتفاع درجة حرارة الأرض، وتزايد ظاهرة التصحر، وسياسات قطع الغابات في بعض الدول، بدأت نتائجها تظهر، شيئا فشيئا.

وكم كان الرئيس عبد الفتاح السيسي موفقا عندما ربط بشكل جيد في كلمته عبر الفيديو كونفرانس الشهر الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بين قضية التغير المناخي، التي تتصدر قائمة أولويات المجتمع الدولي حاليا بجانب جائحة كورونا، وبين قضية حق مصر في مياه النيل، وسد النهضة الإثيوبي، باعتبار أنه منذ أن بدأت إثيوبيا في الملئ الأول، ثم الملء الثاني للسد، وهناك مستقبل غير واضح لطريقة توزيع استخدام حصة مصر من المياه على مدار العام، مما ينتج عنه تغير في مواعيد وكميات بعض المحاصيل، أو مما أدى إلى حتمية التوقف عن زراعات معينة، مثل الأرز والموز.

أحدث الأرقام الرسمية المصرية عن الأراضي الزراعية كان قد أعلنها السيد القصير وزير الزراعة مؤخرا، وتحديدا عند افتتاح الرئيس محطة "بحر البقر"، حيث تشير هذه الأرقام إلى أن مساحة الرقعة الزراعية في مصر ارتفعت إلى 9,7 مليون فدان، في حين أن المساحة المحصولية، أو المنزرعة، تبلغ 17,5 مليون فدان، من بينها 58% من الأراضي لزراعة الحبوب فقط، و11%للمحاصيل البستانية.

وإذا استمرت السياسات الزراعية الحالية، بشأن استزراع المزيد من الأراضي، وبخاصة في سيناء، بعد مشروع محطة مياه "بحر البقر" المعالجة، الذي سيزرع 450 ألف فدان على الأقل، إضافة إلى خطط استزراع 1,1 مليون فدان بجنوب الوادي وتوشكى، فإن هذا يبشر بزيادة أخرى في أراضي مصر المزروعة، لدرجة أنها قد تنجح بالفعل في تحقيق إنجاز كبير، إذ أنها تقترب الآن من تحقيق ضعف الرقعة الخضراء لديها في سبع سنوات.

وكان وزير الزراعة السيد القصير قد كشف أيضا أمام الرئيس السيسي، خلال افتتاح محطة بحر البقر، عن معلومات أخرى أرقام مبشرة؛ حيث قال إن القطاع الزراعي في مصر شهد طفرة كبيرة في شتى المجال، لا سيما في التوسع الأفقي والرأسي للمساحات الخضراء، وأيضا في القطاع الحيواني والاستزراع السمكي والداجني، كما أشار إلى أن قطاع الزراعة في مصر حقق معدل نمو إيجابيا نسبته 3,7٪، وبات يستوعب أكثر من 25٪ من إجمالي القوى العاملة، ويساهم الآن في حوالي 17٪ من قيمة الصادرات الزراعية المصرية، والتي بلغت خلال العام الماضي 5,2 مليون طن، بحوالي 2,2 مليون دولار، أي بما يعادل 33 مليار جنيه.

ومن أبرز الوجوه الجديدة التي ستنضم إلى قطاع الزراعة في مصر، مشروع الدلتا الجديدة، والذي تبلغ مساحته 2,2 مليون فدان، وتستهدف المرحلة الحالية منه زراعة مليون فدان، وفقا للمياه المتاحة، وكذلك مشروع تنمية توشكى الذي تبلغ مساحته 1,1 مليون فدان، فضلا عن مشروع "الريف المصري" الذي بدأ العمل فيه منذ سنوات، ويهدف زراعة واستصلاح 1,5 مليون فدان.

وأثمرت سياسات مصر الزراعية في السنوات القليلة الماضية عن نتائج مبهرة في ظل ما يعاني منه العالم من تقلص في مساحة الأراضي الزراعية وتناقص إنتاجية الفدان، وارتفاع في أسعار السلع الغذائية، فقد نجحت مصر في تحقيق فائض في إنتاج بعض السلع الزراعية، مثل الأرز والخضروات والفاكهة والذرة البيضاء، واقتربت أيضا من تحقيق اكتفاء ذاتي من سلع أخرى مثل الأسماك، بعد ظهور بشائر إنتاج البحيرات المستصلحة والمزارع السمكية.

وكان من الطبيعي تصدير الفائض، فارتفعت صادرات مصر الزراعية إلى 5,2 مليون طن، لتضيف 2,2 مليار دولار إلى الناتج القومي، وباتت بعض السلع الزراعية التي يتم تصديرها تحظى بشهرة عالمية واسعة، مثل البرتقال والبطاطس والفراولة.

قبل أيام، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو" أحدث تقرير لها عن أسعار المواد الغذائية، فذكرت أن أرقام سبتمبر الماضي تشير إلى ارتفاع إضافي تم تسجيله عن الشهر السابق.

وتحدثت "الفاو" تحديدا عن أن متوسط مؤشر المنظمة لأسعار الأغذية بلغ قرابة 130,0 نقطة في سبتمبر الماضي، أي بزيادة قدرها 1,5 نقاط، أو 1,2% عن مستواه المسجّل في أغسطس، وأعلى بمقدار 32,1 نقطة، أو 32,8% عن مستواه خلال الشهر نفسه من العام الماضي. 

ويعزى القسم الأكبر من الزيادة الأخيرة في المؤشر إلى ارتفاع أسعار معظم الحبوب والزيوت النباتية، كما ارتفعت بدورها أسعار الألبان والسكر، في حين بقي المؤشر الفرعي لأسعار اللحوم "عالميا" مستقرًا.

ولا ننسى تأثير الارتفاع الكبير في أسعار ورسوم شحن الصادرات الصينية، وتكاليف الشحن البحري، في ضوء الطلب المتزايد على السلع والمنتجات، نتيجة بدء التعافي العالمي من جائحة كورونا.

صندوق النقد الدولي من جانبه يتوقعأن تصعد الأسعار بنسبة 45% بشكل عام، على أن تكون الأسواق الناشئة أكثر عرضة للصدمات.

وهذا معناه، أن الارتفاعات التي شعر بها المستهلك المصري في الأسابيع القليلة الماضية، لا يمكن وصفها سوى بـ"المحدودة جدا"، قياسا بما يجري في دول العالم الأخرى.

وقد يعني أيضا أن السياسات الزراعية والمائية والتصديرية الناجحة ساعدت على تخفيف وطأة ارتفاع الأسعار بشكل أو بآخر على المستهلك المصري، بعيدا عن الأسباب الأخرى التي تتعلق بالجشع والغش، وغير ذلك.

ستؤثر ظاهرة ارتفاع أسعار الغذاء والوقود على مصر بطبيعة الحال، فلسنا بمنأى عن التقلبات العالمية، ولكن على المواطن أن يدرك أنه لولا ما تحقق من سياسات، لكانت التأثيرات الآن مدمرة، وبالنسب العالمية للارتفاعات.

ولا يوجد بديل سوى العمل في الاتجاه نفسه، من الاهتمام بزيادة مساحات الأراضي الزراعية، وتقليل الفاقد منها، أملا في الحفاظ على ارتفاعات أسعار السلع الأساسية، بوتيرة أبطأ من الوتيرة العالمية.